الأحد, مايو 19, 2024
spot_img
الرئيسيةثقافةعندما أنب ستالين مخرج "إيفان الرهيب" وبطله على أخطائهما

عندما أنب ستالين مخرج “إيفان الرهيب” وبطله على أخطائهما

في فيلمه الذي حققه السينمائي السوفياتي أندريه كونتشالوفسكي عام 1962 بعنوان “حلقة الخلان” يظهر الزعيم السوفياتي ستالين، بعد 9 سنوات من رحيله وست سنوات من انعقاد المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي السوفياتي الذي انقلب عليه تماماً وعلى سنوات طغيانه. غير أن الفيلم لم يكن سيئاً في حق الزعيم الراحل، بل على العكس قدم عنه صورة زاهية لعل أهم ما فيها أنه بدا منصفاً بصورة مواربة على رغم ما كان يفترض أن يحمله للزعيم المنبوذ بعد رحيله، من صورة كان ينبغي أن تستفيد من مناخ نزع الستالينية، لكنها لم تكن كذلك، بل أتت إيجابية، ولا سيما في مجال تصويرها اهتمام “أبي الشعب السابق” بشؤون البلاد والعباد، وصولاً إلى تدخله حتى في الفنون وفي إبداع الفنانين.

بين قيصرين

ولا شك أن الفيلم بدا واضحاً في هذا المجال، إذ صور خصوصاً “عمق معرفة ستالين بالسينما والتاريخ معاً”. وهو التصوير الذي لا شك أنه لم يظهر للمرة الأولى في هذا الفيلم، بل هو أمر سبق لفنان الشعب السوفياتي الممثل القدير نيكولاي تشيركاسوف أن تحدث عنه باستفاضة و”قناعة عميقة” في نص جاء في سياق مذكراته التي تحوي فصلاً كاملاً يتعلق خصوصاً بفيلم “إيفان الرهيب” من تحقيق إيزنشتاين، وهو فيلم قام فيه تشيركاسوف في جزأيه الأول والثاني بدور القيصر الجبار، إذ كان من الواضح أن إيفان لم يكن في الفيلم سوى أنا/ آخر لستالين نفسه، بالتالي بدا الفيلم كنوع من إقامة تشبيه بين القيصر القديم المؤسس و”القيصر” الجديد السائر على خطاه.

والحقيقة أن كل ما في الفيلم كان يشير إلى تلك القصدية في فيلم أنتجته السلطات في زمن كان فيه الاتحاد السوفياتي يجابه أخطار نازية تشبه الأخطار التي جابهها إيفان الرهيب قبل مئات السنين، بالتالي كان من الواضح أن الغاية العميقة لفيلم إيزنشتاين كانت دعائية – سياسية. صحيح أن هذه الحقيقة لم تغب عن أي من الذين شاهدوا الفيلم، لكن كان في الإمكان تمريرها وكان صناع الفيلم متأكدين من أن ستالين حين سيشاهد الفيلم سيكون راضياً عنه كل الرضا. وكانوا واثقين على أية حال أنه سيكون من أوائل الذين سيشاهدونه، وذلك ما حدث بالفعل. غير أن المشكلة كانت أن اللقاء بين ستالين وصناع الفيلم، ممثلين بإيزنشتاين وتشيركاسوف من حول الجزء الأول من “إيفان” أتى بعد أن كان ستالين قد تمكن من دحر النازيين متخلصاً من الأخطار المماثلة لتلك التي كان يمكن قبل ذلك أن تبرر كل القسوة التي “اضطر” سيد الكرملين إلى اقترافها بذريعتها. ومن هنا يمكننا أن نفهم المعاني التي اتخذها اللقاء الذي تم بحسب رواية تشركاسوف يوم الـ24 من فبراير (شباط) 1947 – وهو تاريخ لا شك أنه غير صحيح وأن السنوات اختلطت على صاحب المذكرات، وذلك لأن الواقع التاريخي يفيدنا بأن إيزنشتاين كان قد رحل عن عالمنا قبل ذلك بأشهر طويلة، في العام السابق – بالتالي من المؤكد أن اللقاء تم قبل ذلك، بل بعد أشهر قليلة من بداية عروض الفيلم في موسكو عند مفتتح عام 1945 وفي حياة إيزنشتاين بالتحديد.

تفاصيل لقاء ما…

مهما يكن من أمر، نترك هذا الخطأ التاريخي جانباً لنعود إلى اللقاء نفسه، والذي تم في وقت كان فيه السينمائيان يستعدان للبدء في إنجاز الجزء الثاني الذي لن يعرض عروضاً عامة على أية حال إلا في عام 1958، حتى وإن كان سينجز تصويراً وتوليفاً في آخر سنتين من حياة مخرجه. ولنشر إلى أن اللقاء مع زعيم البلاد كان يتعلق بالجزء الثاني بأكثر مما يتعلق بالجزء الأول الذي كان ستالين قد غض النظر عن “هناته” إن لم يكن الفنية، حتى وإن كان لم يمررها على أية حال، فإنه ركز على علاقتها بـ”الحقائق التاريخية” التي لم يرضه وصفها في الفيلم كما سيقول.

ويبدأ الممثل الكبير حكايته على أية حال، بذكر تاريخ اللقاء باعتباره تاريخياً بالغ الأهمية وفريداً من نوعه مع الرفيق يوسف فيساريونوفتش (الاسم الحقيقي والحميم لستالين)، “وكان ذلك حين دعانا الرئيس، الرفيق إيزنشتاين وأنا لمناقشة الجزء الثاني في فيلم “إيفان الرهيب”. ولقد استهل ستالين اللقاء باعتذاره عن تأخره في تحديد موعد اللقاء أشهر عدة بسبب تراكم الأعمال عليه. ولقد تم اللقاء في مكتب الرفيق ستالين في حضور مولوتوف وجدانوف” – وهذا الأخير كان كما نعرف المسؤول الأكبر عن كل شؤون الفن تحت إشراف ستالين – ولئن كان يفترض بموعد اللقاء أن يكون العاشرة والنصف ليلاً “فإننا جلسنا قابعين في ردهة المكتب منتظرين حتى الـ11 حين أبلغنا أن اللقاء سيتم الآن وأدخلونا إلى المكتب حيث دعانا وجدانوف للجلوس إلى يسار الرفيق ستالين حول طاولة عريضة فيما جلس هو ومولوتوف إلى يمينه”.

من فوره حين جلس الجميع قال ستالين إن الرسالة التي كنا بعثنا بها إليه طالبين اللقاء وصلته من زمن، لكنه لم يجد فسحة من الوقت تمكنه من تلبية طلبنا إلا الآن، مضيفاً أنه “كان ينوي أن يرد على أسئلتنا كتابة، لكنه ارتأى أن لقاءً مباشراً سيكون أكثر جدوى. “المهم ماذا ستفعلون بالفيلم الآن؟”. وهكذا كما يقول تشيركاسوف انطلقت تلك المحادثة التي راح كاتب المذكرات يتغنى بأهمية كل كلمة فاه بها الرئيس خلالها، ولا سيما “حين راح الرفيق ستالين يبدي من الفهم لعلاقة التاريخ بفن السينما عمقاً مدهشاً مركزاً على جملة من ملاحظات شديدة الدقة تتعلق بمرحلة حكم إيفان وضرورة تصويرها بواقعية تكشف عن حقيقتها التاريخية، مع ضرورة الحفاظ بقوة على كل أساليب السرد المتعلقة بتلك المرحلة التاريخية”. ويعلق تشيركاسوف هنا قائلاً في مذكراته “والحقيقة أنه خلال اللقاء كله تناول الحديث عديداً من المعضلات المتعلقة بسينمانا، الأمر الذي أمعن في اقتناعنا بعمق تفهم يوسف فيساريونوفتش للمعضلات التي تواجه الفن السينمائي بصورة عامة”، ومن ذلك “إننا حين وصلنا إلى الفترة الزمنية التي سنحتاج إليها لاستكمال إنجاز الفيلم قال لنا الرفيق ستالين إنه لا داعي للعجلة التي لن تكون مفيدة. فلنأخذ من الوقت بقدر ما نحتاج كي يطلع الفيلم من بين أبينا لا تشوبه شائبة”.

ختامها فرحة مزدوجة!

وهنا يلفت النظر حقاً ما ينسبه الكاتب إلى ستالين من قوله “لا ننسى أن جمهورنا بات ناضجاً، بالتالي بات أكثر تطلباً ما يجعل من المحتم علينا أن نقدم له أفلاماً ذات مستوى رفيع ونوعية مميزة”. على سبيل ختم المحادثة عند هذا الحد طرح يوسف فيساريونوفتش على الفنانين سؤالاً واضحاً: كيف تنوون اختتام الفيلم؟ فأجابه تشيركاسوف: “تماماً كما يرد في السيناريو الأصلي سننهيه بالحرب الليفونية وخروج إيفان مظفراً متوجهاً نحو البحر صارخاً “نحو البحار… البحار التي سنتمسك بها ونحرص عليها إلى الأبد”. من الواضح أن هذه الصرخة الختامية راقت للزعيم السوفياتي إلى درجة جعلته يبدي بدوره صرخة إعجاب قائلاً وهو فائق السرور: “عظيم عظيم… لقد كان هذا ما حدث حقاً… بل حتى حدث ما هو أعظم منه بكثير!”. وعلى ذلك أنهى اللقاء متمنياً لنا كل ما قال إننا نستحقه من نجاح”. ويختم تشيركاسوف هذه الصفحات من مذكراته متحدثاً عن خروجه ورفيقه من الكرملين سعيدين بما حدث “ورحنا نتمشى على طول الساحة الحمراء مستعيدين لحظات اللقاء وتفاصيل المحادثات التي تم تبادلها خلال لقاء لا ينسى”. وفي اليوم التالي “طالعني في الصحف خبر يتحدث عن إعلان مجلس السوفيات الأعلى مرسوماً يقضي بمنحي لقب “فنان الشعب في الاتحاد السوفياتي”… وبدا من الواضح لي أن ذلك القرار الحكومي، إنما كان تعبيراً ودياً من قبل الرفيق ستالين وتقديراً منه شخصياً لدأبي الفني وإخلاصي لبلادي. وبعد دقائق كنت أمتشق قلمي ودواتي وغايتي أن أكتب رسالة مطولة تعبر للرئيس عن شكري وتقديري ورحت أقلب الأمر في ذهني لأتوصل إلى صيغة أدبج بها الرسالة فوجدتني في نهاية الأمر أكتفي بسبع كلمات: أيها الرفيق ستالين، شكراً على كل شيء!”.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات