السبت, أبريل 27, 2024
spot_img
الرئيسيةآراءمائة ألف مليون ولا ينتهي العد!

مائة ألف مليون ولا ينتهي العد!

كيف للاعب يقضي ثمانين في المائة من وقت المباراة على دكة الاحتياط، وحين يستبدله المدرب، يدخل الملعب فقط ليحرز الأهداف، ليس في مباراة واحدة، بل كل المباريات، النهائيات، وفي كأس العالم؟

أسأله: ما الذي كنت تفعله وأنت على دكة البدلاء يا سالفاتوري سكيلاتشي، كيف كنت تتابع المباريات، وأنت في حالة جمود؛ منفياً عن الملعب ومعطل القدرات؟

كنت أتابعه، برأسه الضخم، رأس الأهداف المحرزة من أنصاف الفرص، أشاهد في شاشة عينيه، من دكة البدلاء، مباراة أخرى يديرها هو بمفرده، يسيطر عليها ويحرك لاعبيها حيث يشاء، وحين يخرجه المدرب من ملعبه الخاص ليدخله ملعب الواقع، ينتفض مستبدلا كل شيء، ليحل ملعبه المشيَّد في خياله بديلاً لملعب الكأس المحلوم، ويحرز الأهداف، ثم يحيا في الحلم مدى العمر.

*ما الذي تفعله بنا كرة القدم؟

ربما طرحت هذا السؤال على نفسي للمرة الأولى وأنا في سن الخامسة أو السادسة، في المقصورة الرئيسية لإستاد مدينة نيالا، أقصى غرب السودان، هناك كنت أجلس مجاوراً لأبي وملتصقاً به، نتابع إحدى المباريات التي طرفها فريق الهلال – نيالا. ما كان يشدني وقتها حالة الخروج الغريب والصاخب التي كانت تنتاب أصدقاء أبي، خروجهم عن الوقار والهدوء وسمت الأبوية السلطوية الصارمة، وكسر الصورة النمطية لـ وجهاء المدينة التي تفصلهم بأميال عن الجمهور الآخر، الموجود هناك، قريباً، واقفاً على الأقدام في مساحة «الشعبي»، يقرعون الطبول ويلوحون بالرايات ويصرخون في تشنج بأسماء اللاعبين ويغنون انتصارهم الأكيد. ثم يختلط عليَّ المشهد، وأراه مشتبكاً، متداخلاً، الكل يصير واحداً ماضياً في خياله الكروي المنفلت إلى أقصاه.

لكن، ما كان يشدني أكثر ويستفز طفولتي، تلك الجهة الأخرى التي يمضي إليها أبي، وهي في الظاهر نقيضة لحال أصدقائه المتحررين من خناق الوجاهة المتوهمة، ومضادة لجمهور «الشعبي» المنسحب فعلياً إلى خارج الوقت. كنت أراه – أبي – يغرق أكثر في هدوئه وصمته المميزين له، منفصلاً عما يحيط به، نظراته من وراء نظارته السميكة متركزة على الميدان، على اللاعبين، الأهداف المحرزة والأهداف الضائعة، المراوغات البديعة، حالات التسلل، صافرة ورايات الحكام، كل شيء يدور هناك، في الميدان الكروي، كنت أراه مختلجاً في هدوء تعابير وجهه، ابتسامته الخفيفة، أو تقطيبته الأخف، أو تلك الحالة الصوفية، التي ما كنت أراه عليها بعيداً عن الميدان؛ إلا حين يحتضن بين فترة وأخرى كتبه في الأدب العربي القديم: المعلقات العشر، والمتنبي والمعري والقاموس المحيط! بأي عين كان يشاهد أبي مباريات الكرة؟ وبأي خيال شعري كان يحرك «لاعبيه» داخل الملعب؟

بعد سنوات طويلة، تركت خلالها متابعة كرة القدم، بالأحرى هربت منها بحثاً عن كأس في ميدان آخر؛ كنت عائداً من مكان ما، حين مررت بجوار أحد أندية المشاهدة، كانت هناك سبورة سوداء معلقة على جدار النادي تتأرجح بفعل الهواء، مكتوب عليها بخط رديء: «مباراة اليوم – الهلال والمريخ، الساعة الثالثة ظهراً»! توقيت غريب لمباراة كرة قدم في زمن المباريات الليلية، توقيت يعيدني إلى مباريات إستاد نيالا في الزمن البعيد.. الساعة الآن الثالثة إلا ربعاً، الجمهور يلج من باب النادي، فألمح سريعاً شاشةً عملاقة عليها يظهر الإستاد، والأعلام الزرقاء والحمراء تتطوح بأيدي الجماهير على المدرجات. تقدمت يدفعني الحنين والحلم، وولجت الباب. هنا، وبعد السنوات الطويلة تذكرتُ أبي، وأنا أجلس صامتاً، محشوراً بين المشجعين الصاخبين، غارقاً في نفسي، أتابع المباراة، المباراتين، المتطابقتين، في زمن حاضرٍ وزمن موازٍ، كل شيء يدور في داخلي، ليس في عقلي وقلبي فقط، بل في كامل كياني المنفعل بالتمريرات والأهداف المحرزة، الضائعة، المفترضة، الممكنة، التي في الإمكان واللا مكان.. أنا الميدان – الملعب، أنا الحكام، واللاعبون والجماهير وشباك المرمى المهتزة حين هدف!.

لم ألعب كرة القدم بحجم ذلك الحلم الذي كنت أبنيه في خيالات ما قبل منامي. لعبت في الحواري مع «أولاد الحلة» بالطبع، لكني لم أمض مثلهم في بناء الحلم، وتشبيك الخيال بالواقع. طبيبٌ ما أوقفني في طفولتي عن الإرهاق، قال: «العب قليلاً لكن لا تنهك نفسك»! كيف يكون هذا مع كرة القدم؟ الجري لمسافات طويلة، عنف الخصوم والتحام الأجساد، وتمارين الإحماء ممتعة الإرهاق؟ مضى الأصدقاء إلى أندية روابط الناشئين، ومضيتُ إلى الخيال. سأخفّ يوماً، وسأبدع في كرة القدم مثلما يبدع جلال مارادونا، لا، مثل دييجو مارادونا نفسه سأبدع في الكرة، سأتجاوز حتى «الأمين أوقو»، و«ود الشواطين»، و«ياسر أبو لفتة». في ليل طفولتي، وأحياناً في سراب نهاراتها القائظة؛ كنت ألعب كرتي الخاصة، أشيد مياديني، أجري من أول الميدان إلى آخره ولا أتعب، أراوغ الجميع، وأحرز الأهداف برأسي، وقدميَّ الاثنتين، وصدري، وفخذي، وفي مرات ساخراً أحرزها بيدي – «يد الله» – والحكم غافل.

وكنت – كما ترى – أعشق أولئك اللاعبين المحليين، وأرى فيهم نموذجي الأعلى، جميعهم يلعبون للهلال، عدا «ياسر أبو لفتة»، الذي كنت أظن أن خطأً ما قاده إلى «المريخ»، خطأ في الخيال، والقرار، وبناءات الطفولة.. كيف للاعب بهذا الفن والجمال أن يلعب لـ «المريخ»؟ وكنت في مرات كثيرة، في آخر الليل؛ أبدل «فانلته» من الأحمر إلى الأزرق، وأضعه بحب كبير بين رفاقه الحقيقيين في فريق «الهلال»، ليلعب هناك ويحرز الأهداف بيسراه القاتلة.

من حظي أن «الأمين أوقو»، أو «أوقة» زنة الذهب، كان يسكن في حينا ذاته، بيته قريب من بيتنا، وكثيراً ما كنت أصادفه عائداً من التمارين أو المباريات. كنت أراقبه متخفياً، أشاهد تمارينه الخاصة المغرقة في توحدها، الساعات الطوال وهو يرفع الأثقال، ويشد الحبال، ويؤدي الـ«بوش أب» مئات المرات، ويلاعب الكرة، يحركها مقذوفة بين قدميه، على صدره، رأسه، كتفيه، ظهره، أنفه، على فخذيه، وأنا أعدّ متنقلاً معه من ضربة إلى أخرى: واحد اثنان، مائة، ألف، ولا تنتهي الكرات، بينما أواصل أنا العد هناك في فراشي الليلي، مع كرتي الخاصة، تماريني المحلومة، مائة ألف مليون، ولا ينتهي العد.

مثل ناسك، معزولاً عن العالم، وجهه الأسمر مبتل بالعرق المقدس، منه يشع نور الإيمان؛ الإيمان بالكرة، ولا شيء آخر، قط، وأبداً، يركل «الأمين أوقو» الكرة بقدميه ليمزق الشباك.

هل أطلق خصوم «الهلال» على اللاعب «الفاتح جوجوي»، لقب «ود الشواطين»؟ هل كانوا يتعوذون منه ومن قدرته على الإغواء والخداع وسرقة الأهداف مع كل لمسة للكرة؟ عنّي، كنت أراه بعين طفولتي شيطاناً تاماً، بأسنانه الذهبية البارقة، وجسده الفارع الرشيق، ومراوغاته الشيطانية المذلة للخصوم. إنه الشيطان نفسه، لكنه ليس رجيماً، شيطان كروي، مسلم، لطيف، أوجده الله ليلهمني ويشحذ طفولتي وطفولة أقراني بالخيال، بحلم أن تكون يوماً «ود شواطين».

قابلت «جلال مارادونا» يوماً، بعد سنوات من اعتزاله اللعب. كنت برفقة أبي، وكان مريضاً، خرجنا من المستشفى، وأوقفت أنا أول «ركشة»– تكتوك– مرّت من أمامي. كان السائق قصيراً ووسيماً وعجلاً، حرك «الركشة» قبل أن يجلس أبي جيداً على المقعد، فتخاشنت معه في الكلام، وكدت أتركه وأختار وسيلة أخرى، لولا أن ناداني أبي مبتسماً أن «اصعد». في الطريق قال أبي للسائق: «إزيّك يا جلال»، حينها فقط انتبهت، إنه «جلال مارادونا»، أحرف لاعبي المدينة، وأمكرهم في الثمانينيات، الهداف الأبدي، المشاغب الكروي الجميل. أصبت بصدمة، بشرخ في الذاكرة، بألم حقيقي في مكامن الخيال. كنت مرتبكاً بين الصورتين: سائق الركشة المنطلق بنا بهدوء رفقاً بأبي، واللاعب المشاكس النشط مثل عاصفة، الذي لن تدرك أبداً في أي موقع من الميدان سيرتكز، فهو عند يسار الملعب، ويمينه، ووسطه، وفي المقدمة، هناك، عند أي حيز من الملعب هو موجود ليراوغ ويعزف مقطوعاته الموسيقية الساحرة، ويحرز الأهداف. أستدعيه بخيالي من سنوات أحلامي، وأدمجه في صورته الآن وأعتذر: «أحبك يا جلال مارادونا».

_

* نشرت هذه الكتابة في كتاب سحر كرة القدم باللغتين العربية والانجليزية ضمن كوكبة من الكتاب والرياضيين بمناسبة إطلاق نسخة كأس العالم السابقة في قطر.

انشرها هنا لأول مرة تضامنا مع اهلي في مدينة نيالا وفيها استعادة لسنوات مضيئة لمسيرة الرياضة في هذه المدنية المنكوبة الآن بويلات الحروب وتكالب الأعداء الأغبياء.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات